فصل: التفسير الإشاري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهنا للناس طريقتان في مثل هذا: أن يقال: هو داخل في آله مع اقترانه بذكره، فيكون قد ذكر مرتين: مرة بخصوص، ومرة في اللفظ العام، وعلى هذا فيكون قد صلى عليه مرتين خصوصًا وعمومًا، وهذا على أصل من يقول: إن العام إذا ذكر بعد الخاص كان متناولًا له أيضا، ويكون الخاص قد ذكر مرتين، مرة بخصوصه، ومرة بدخوله في اللفظ العام، وكذلك في ذكر الخاص بعد العام، كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} البقرة: 98، وكقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} الأحزاب: 7.
الطريقة الثانية: أن ذكره بلفظ الخاص يدل على أنه غير داخل في اللفظ العام، فيكون ذكره بخصوصه مغنيًا عن دخوله في اللفظ العام، وعلى هذه الطريقة، فيكون في ذلك فوائد:
منها أنه لما كان من أشرف النوع العام، أفرد بلفظ دال عليه بخصوصه، كأنه باين النوع، وتميز عنهم بما أوجب أن يتميز بلفظ يخصه، فيكون ذلك تنبيهًا على اختصاصه ومزيته عن النوع الداخل في اللفظ العام.
الثانية: أنه يكون فيه تنبيه على أن الصلاة عليه أصل، والصلاة على آله تبع له إنما نالوها بتبعيتهم له.
الثالثة: أن إفراده بالذكر يرفع عنه توهم التخصيص، وأنه لا يجوز أن يكون مخصوصًا من اللفظ العام بل هو مراد قطعًا. اهـ..

.من فوائد الشعراوي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{إِنَّ الله اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
إنها عدالة القرآن الكريم، أنه الحق العادل الذي ينزل على الرسول بلاغا يذكر الأبناء بطهارة أصول الآباء، ومن الخسارة أن يصير الأبناء إلى ما هم عليه.
{إِنَّ الله اصْطَفَى ءَادَمَ} وكلمة {اصْطَفَى} تدل على اختيار مُرضٍ. ولنا أن نسأل: هل اصطفى الحق هؤلاء الرسل، آدم ونوحًا، وآل إبراهيم، وآل عمران فكانوا طائعين، أم علم الحق أزلا أنهم يكونون طائعين فاصطفاهم؟ إن الحق علمه أزلى، وعلمه ليس مرتبا على كل شيء. وساعة أن تأتي أنت بقانونك البشرى وتتفرس في إنسان ما، وتوليه أمرا، وينجح فيه، هنا تهنئ نفسك بأن فراستك كانت في محلها، بعلم الله واقتداره؟
إن الذين اصطفاهم الله هم الذين علم الله أزلا أنهم سيكونون طائعين، وقد يقول قائل: إنهم طائعون لله بالاصطفاء، لمثل هذا القائل نرد: إنهم طائعون بالنفس العامة ويكونون في مزيد من الطاعة بعد أن يأخذوا التكليف بالنفس الخاصة، إنهم طائعون من قبل أن يأخذوا أمور التكليف، ولو تركهم الحق للأمور العقلية لاهتدوا إلى طاعته، وعندما جاءهم الأمر التكليفي ويصطفيهم الله يكونون رسلا وحملة منهج سماوي.
عندما يسمع الإنسان قول الحق: {إِنَّ الله اصْطَفَى ءَادَمَ} فقد يتساءل عن معناها، ذلك أن من اصطفاء الله لآدم تأتي إلى الذهن بمعنى خصه بنفسه أو أخذه صفوة من غيره، فكيف كان اصطفاء آدم، ولم يكن هناك أحد من قبله، أو معه لأنه الخلق الأول؟ إننا يمكن أن نعرف بالعقل العادي أن اصطفاء الله لنوح عليه السلام؛ كان اصطفاء من بشر موجودين، وكذلك اصطفاء إبراهيم خليل الرحمن وبقية الأنبياء.
إذن، فكيف كان اصطفاء آدم؟ إن معنى {اصْطَفَى ءَادَمَ}- كما قلنا- تعني أن الله قد اختاره أو أن المصطفى عليه يأتي منه ومن ذريته. نعم وقد جاء المصطفى عليه من ذريته، وهذا المعنى يصلح، والمعنى السابق عليه يصلح أيضا. إن الحق يقول: {إِنَّ الله اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا} ونحن نعلم أن سيدنا نوحًا عليه السلام واجه جماعة من الكافرين به، فأغرقهم الله في الطوفان، ونجا نوح ومن معه بأمر الله.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40].
إن الذين بقوا من بعد نوح عليه السلام كانوا مؤمنين، ثم تعرضوا للأغيار. وجاءت هذه الأغيار في أعقابهم، فنشأ كفر وإيمان، لماذا؟ لأن آدم عليه السلام حين خلقه الله وضع له التجربة التكليفية في الجنة، كان من الواجب أن ينقل ما علمه له الله لأبنائه.
لقد نقل آدم لهم مسائل صيانة مادتهم وعلمهم كيف يأكلون، وكيف يشربون، وغير ذلك.
وكان يجب أن تكون معهم القيم. إن آدم عليه السلام قد أدى ذلك، وعلم أبناءه كيفية صيانة مادتهم وعلمهم القيم أيضا، ولكن بمرور الزمان، ظل بعض من أبناء آدم يتخففون من التكاليف حتى اندثرت وذهبت. ومن رحمة الله بخلقه يجدد سبحانه وتعالى الرسالة ببعث رسول جديد.
والرسالة الجديدة تعطي ما كان موجودا أولا، فيما يتعلق بالعقائد والأخبار، والأشياء التي لا تتغير، وتأتي الرسالة الجديدة بالأحكام المناسبة لزمن الرسالة. فإذا ما أمكن للبشر أن يعدلوا من سياسة البشر، يظل الأمر كما هو، فإن ارتكب واحد منكرا وضرب قومه على يده، استقام أمر الرسالة وبقيت هذه الأمة على الخير. لماذا؟ لأن مصافى اليقين في النفس الإنسانية موجودة، ونحن نراها ونلمسها. إن هناك واحدا تجد مصافي اليقين في ذاته، وقد لا يقدر على نفسه، فيرتكب المعصية، وتلومه نفسه، فيرجع عن المعصية.
ومرة أخرى نجد إنسانا آخر لا يجد في نفسه مصافى اليقين، ولكنها موجودة في غيره، فنجد من يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، فإذا امتنعت المصافي الذاتية للإيمان، وكذلك امتنعت المصافي الإيمانية في المجتمع، فلا أمل هنالك، لذلك يجب أن يأتي رسول جديد، وينبه الناس بمعجزة ما.
لقد شاءت إرادة الحق سبحانه ألا يأتي رسول آخر بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك شهادة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن الله أمنها على منهج الله، فإذا مُنِعت من أي نفس مصافيها الذاتية فستبقى مصافيها الاجتماعية، ولابد أن يكون في أمة محمد ذلك؛ لأن امتناع ذلك كان يستدعي وجود نبيّ جديد.
إن الله أمن أمة محمد على منهجه، ولذلك لم يأت نبيّ بعد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد أمن الحق أمة محمد فلم يمنع فيها أبدا المصافي الذاتية أو الاجتماعية، ولذلك يأتي القول الحق: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} [آل عمران: 110].
إن هذا توجيه لنا من الحق لنعرف أن المصافي الاجتماعية ستظل موجودة في أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذن فبعد حدوث الغفلة من بعد نوح عليه السلام جاء الله باصطفاءات أخرى رحمة منه بالعالمين، ويقول الحق: {إِنَّ الله اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}. ونحن نقول على إبراهيم عليه السلام: أبو الأنبياء وأورد الحق نبأ بعض من أبناء آل إبراهيم، وهم آل عمران وأعطاهم ميزة.
وكلمة عمران هذه حين ترد في الإسلام فلنا أن نعرف أن هناك اثنين لهما الاسم نفسه، هناك عمران والد موسى وهارون عليهما السلام. وهناك عمران آخر. إن عمران والد موسى وهارون كان اسم أبيه يصهر وجده اسمه فاهاث، ومن بعده لاوى ومن بعده يعقوب، ومن بعده إسحق، وبعده إبراهيم، أما عمران الآخر، فهو والد مريم عليها السلام.
وقد حدث إشكال عند عدد من الدارسين هو أي العمرانين يقصده الله هنا؟
والذي زاد من حيرة هؤلاء العلماء هو وجود أخت لموسى وهارون عليهما السلام اسمها مريم، وكانت ابنة عمران والد موسى وهارون فكلتاهما اسمها مريم بنت عمران. وكانوا في ذلك الزمن يتفاءلون باسم مريم لأن معناه العابدة، ولما اختلفوا لم يفطنوا إلى أن القرآن قد أبان وأوضح المعنى، وكان يجب أن يفهموا أن المقصود هنا ليس عمران والد موسى وهارون عليهما السلام، بل عمران والد مريم، ومنها عيسى عليه السلام، وعمران والد مريم هو ابن ماثان، وهو من نسل سليمان، وسليمان من داود، وداود من أوشى، وأوشى من يهوذا، ويهوذا من يعقوب، ويعقوب من إسحق.
وكنا قديما أيام طلب العلم نضع لها ضبطا بالحرف، فنقول عمعم سدئيّا ومعناها.. عيسى ابن مريم، ومريم بنت عمران، وعمران ابن ماثان، وماثان من سليمان، من داود من أوشى وأوشى من يهوذا ويهوذا من يعقوب ويعقوب من إسحاق. لقد التبس الأمر على الكثير وقالوا: أي العمرانين الذي يقول الله في حقه هذا القول الكريم؟
ولهؤلاء نقول: إن مجيء اسم مريم عليها السلام من بعد ذلك يعني أنه عمران والد مريم، وأيضا يجب أن نفطن إلى أن الحق قد قال عن مريم: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].
وزكريا عليه السلام هو ابن آذن، وآذن كان معاصرا لماثان. إن المراد هنا هو عمران والد مريم. هكذا حددنا أي العمرانين يقصد الحق بقوله: {إِنَّ الله اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}. وعندما تقول: اصطفيت كذا على كذا، فمعنى ذلك أنه كان من الممكن أن تصطفى واحدا من مجموعة على الآخرين، ولذلك نفهم المقصود ب {على العالمين} أي على عالمي زمانهم، إنهم قوم موجودون وقد اصطفى منهم واحدا، أما الذي سيولد من بعد ذلك فلا اصطفاء عليه، فلا اصطفاء على محمد صلى الله عليه وسلم. ويقول الحق بعد ذلك: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وحين يقول: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} فلنا أن نسأل: هل المقصود بذلك الأنساب أم الدين والقيم؟ ولنا أن نلتفت أن الحق قد علمنا في مسألة إبراهيم عليه السلام أن الأنساب بالدم واللحم عند الأنبياء لا اعتبار لها، وإنما الأنساب المعترف بها بالنسبة للأنبياء هي أنساب القيم والدين. وكنا قد عرضنا من قبل لما قاله الحق: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124].
فردها الله عليه قائلا: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
لماذا؟ لأن الإمام هو المقتدى في الهدايات. إذن فالمسألة ليست وراثة بالدم. وهكذا علم سيدنا إبراهيم ذلك بأن النسب للأنبياء ليس بوراثة الدم، إذن فنحن نفهم قول الحق: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} على أنها ذرية في توارثها للقيم. ونحن نسمع في القرآن: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].
إن هذا النفاق ليس أمرا يتعلق بالنسب وإنما يتعلق بالقيم، إنها كلها أمور قيمية، وحين يقال: {وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي أن الله يعرف الأقوال وكذلك الأفعال والخبايا. وبعد ذلك يقول الحق: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: مالك هو ملك الوجود فلا وجود بالحقيقة إلا له، تؤتي الوجود من تشاء وتنزع الوجود ممن تشاء، فتخلق بعض الموجودات مستعدًا للبقاء كالملائكة والإنسان، توجد بعضها قابلًا للفناء كالنبات والحيوان غير الإنسان.
{وتعز من تشاء} بعزة الوجود النوري، {وتذل من تشاء} بذل القبض القهري، بيدك الخير.
{إنك على كل شيء قدير} تضمين للدعاء بذكر السبب كما يقال للجواد أنك الذي يقدر على إعطاء كل خير فأتنا وأعزنا يا مفيض كل خير، ويا كاشف كل ضير.
تولج ليل ظلمات الصفات البشرية النفسانية في نهار أنوار الصفات الروحانية وبالعكس، تخرج القلب الحي بالحياة الحقيقية من النفس الميتة، وتخرج القلب الميت عن الحياة الحقيقية من النفس الحية بالحياة المجازية الحيوانية. لا يتخذ القلب المؤمن والروح والسر وصفاتها الكافرين من النفس الأمّارة والشيطان والهوى والدنيا أولياء من دون المؤمنين من القلب والروح والسر، ومن يفعل ذلك من القلوب فليس من أنوار الله وألطافه في شيء إلا أن تخافوا من هلاك النفوس. فالنفس مركب الروح فتواسوها كيلا تعجز عن السير في الرجوع وتهلك في الطريق من شدة الرياضات وكثرة المجاهدات.
{ويحذركم الله نفسه} أي من صفات قهره {قل إن تخفوا ما في صدوركم} من معاداة الحق في ضمن موالاة النفس {ويعلم ما في السموات} قلوبكم {وما في الأرض} نفوسكم {يوم تجد كل نفس ما عملت} أثر الخير والشر ظاهر في ذات المرء وصفاته، وبحسب ذلك يبيض وجه قلبه أو يسود ولكنه في غفلة من هذا محجوب عنه بحجاب النفس والجسم كمثل نائم لدغته حية كحية الكفر والخصال الذميمة فلا يحس بها ما دام نائمًا نوم الغفلة، فإذا مات انتبه وأحس، ثم أخبر عن طريق الوصول أنه في متابعة الرسول. واعلم أن للاتباع ثلاث درجات، ولمحبة المحب ثلاث درجات، ولمحبة الله للمحب التابع على حسب الاتباع ثلاث درجات. أما درجات الاتباع فالأولى درجة عوام المؤمنين وهي متابعة أعماله صلى الله عليه وسلم، والثانية درجة الخواص وهي متابعة أخلاقه، والثالثة درجة أخص الخواص وهي متابعة أحواله. وأما درجات محبة المحب فالأولى محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن: «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها» وهذا حب يتغير بتغير الإحسان وهو لمتابعي الأعمال الذين يطمعون في الأجر على ما يعملون وفيه قال أبو الطيب:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ** ضعيف هوى يرجى عليه ثواب

والثانية محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إعظامًا وإجلالًا له، ولأنه أهل لذلك كما قالت رابعة:
أحبك حبين حب الهوى ** وحب لأنك أهل لذاكا

ويضطر هذا المحب في هذه الدرجة إلى إيثار الحق على غيره، وهذا الحب يبقى على الأبد بقاء الكمال والجلال على السرمد وفيه قال:
سأعبد الله لا أرجو مثوبته ** لكن تعبد إعظام وإجلال

والثالثة محبة أخص الخواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكان من: «كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة بسبق العناية، غذينا بالمحبة يوم قالت ** له الدنيا أتينا طائعينا
وحقيقة هذه المحبة أن يفنى المحب بسطوتها وتبقى المحبة فيه بلا هو كما أن النار تفني الحطب بسطوتها وتبقى النار منه بلا هو.
وحقيقة هذه المحبة نار لا تبقي ولا تذر. وأما درجات محبة الله للعبد فاعلم أن كل صفة من صفات الله تعالى من العلم والقدرة والإرادة وغيرها فإنها لا تشبه في الحقيقة صفات المخلوقين، حتى الوجود فإنه وإن عم الخالق والمخلوق إلا أن وجوده واجب بنفسه ووجود غيره ممكن في ذاته واجب به، فليس في الكون إلا الله وأفعاله. قرأ القارى بين يدي الشيخ أبي سعيد بن أبي الخير رحمه الله قوله: {يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54] فقال: بحق يحبهم لأنه لا يحب إلا نفسه فليس في الوجود إلا هو، وما سواه فهو من صنعه. والصانع إذا مدح صنعه فقد مدح نفسه. والغرض أن محبة الله للخلق عائدة إليه حقيقة إلا أنه لما كان مرورها على الخلق فبحسب ذلك اختلفت مراتبها، مع أنها صدرت عن محل واحد هو محل: «كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أعرف» فما تعلقت إلا بأهل المعرفة وذلك قوله: «فخلقت الخلق لأعرف» لكنها تعلقت بالعوام من أهل المعرفة بالرحمة ومشربهم الأعمال فقيل لهم {فاتبعوني} بالأعمال الصالحة {يحببكم الله} يخصكم بالرحمة {ويغفر لكم} ذنوبكم التي صدرت منكم على خلاف المتابعة. وتعلقت بالخاص من أهل المعرفة بالفضل ومشربهم الأخلاق فقيل لهم: {فاتبعوني} بمكارم الأخلاق يحببكم بالفضل يخصكم بتجلي صفات الجمال {ويغفر لكم ذنوبكم} يستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته. وتعلقت بالأخص من أهل المعرفة بالجذبات ومشربهم الأحوال فقيل لهم {فاتبعوني} ببذل الوجود {يحببكم الله} يخصكم بجذبكم إلى نفسه {ويغفر لكم} ذنوب وجودكم فيمحوكم عنكم ويثبتكم به كما قال: «فإذا أحببته كنت له سمعًا وبصرًا ولسانًا ويدًا» فهم بين روضة المحو وغدير الإثبات أحياء غير أموات، ويكون في هذا المقام المحب والمحبوب والمحبة واحدًا كما أن الرائي في المرآة يشاهد ذاته بذاته وصفاته بصفاته فيكون الرائي والمرئي والرؤية واحدًا.
{قل أطيعوا الله والرسول} فإن متابعته صورة جذبة الحق وصدف درّة محبته لكم.
{إن الله اصطفى آدم} وذلك أن الله تعالى خلق العالمين سبعة أنواع: الجماد والمعدن والنبات والحيوان والنفوس والعقول والأرواح، وجمع في آدم جميع الأنواع وخصه بتشريف ثامن هو تشريف {ونفخت فيه من روحي} [ص: 72] فهو المظهر لجميع آياته وصفاته وذاته وهو معنى جعله خليفة ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن الله خلق آدم على صورته» ثم ذكر خواص أولاد آدم نوحًا وآل إبراهيم وآل عمران والمراد بالآل كل مؤمن تقي {بعضها من بعض} بالوراثة الدينية: «العلماء ورثة الأنبياء» فالعالم كشجرة وثمرتها أهل المعرفة {والله سميع} لدعائهم {عليم} بأحوالهم وخصالهم. اهـ.